{وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)}قوله تعالى: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} قد تقدم القول في الضُّحى، والمراد به النهار، لقوله: {وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} فقابله بالليل.وفي سورة الأعراف: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98- 97] أي نهارا.وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبليلة المعراج.وقيل: هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59].وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. وسَجى معناه: سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجيه أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجيه. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم *** وبحرك ساج ما يواري الدعامصاوقال الراجز:يا حبذا القمراء والليل الساج *** وطرق مثل ملاء النساجوقال جرير:ولقد رمينك يوم رحن بأعين *** ينظرن من خلل الستور سواجيوقال الضحاك: سَجى غطى كل شي. قال الأصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار، مثلما يسجى الرجل بالثوب.وقال الحسن: غشى بظلامه، وقاله ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم.وقال سعيد بن جبير: أقبل، وروي عن قتادة أيضا.وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: سَجى استوى. والقول الأول أشهر في اللغة: سَجى سكن، أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم.وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: {الضُّحى} يعني نور الجنة إذا تنور. {اللَّيْلِ إِذا سَجى} يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: {وَالضُّحى} يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. {وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل، فأقسم الله عز وجل بهذه الأشياء. {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ} هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال المشركون: قلاه الله وودعه، فنزلت الآية.وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما.وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما.وقيل: خمسة وعشرين يوما.وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء.وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}.وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت!» قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}. هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: «فلم يقم ليلتين أو ثلاثا» أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. والله أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رمي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: «هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت»فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت {وَالضُّحى}.وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شق عليه، فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}. وقالت خولة- وكانت تخدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: «يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله ترعد لحياه- وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة- فقال: يا خولة دثريني» فأنزل الله هذه السورة. ولما نزل جبريل سأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التأخر فقال: «أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة».وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: «سأخبركم غدا». ولم يقل إن شاء الله. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23] فأخبره بما سئل عنه.وفي هذه القصة نزلت: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}.وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول الله، مالك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: «وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم- وفي رواية براجمكم- ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم». فنزل جبريل بهذه السورة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما جئت حتى اشتقت إليك» فقال جبريل: «أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور» ثم أنزل عليه: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]. وَدَّعَكَ بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق.وروى عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرأاه: {ودعك} بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال:وثم ودعنا آل عمرو وعامر *** فرائس أطراف المثقفة السمرواستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك. قوله تعالى: {وَما قَلى} أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقلى: البغض، فإن فتحت القاف مددت، تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقرئه قرى وقراء. ويقلاه: لغة طئ. وأنشد ثعلب:أيام أم الغمر لا نقلاها ***أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال:أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلتوقال امرؤ القيس:ولست بمقلي الخلال ولا قال وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية، كما قال عز وجل: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ} [الأحزاب: 35] أي والذاكرات الله.